فصل: تفسير الآية رقم (39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

هذا مقابل قوله ‏{‏وهدوا إلى صراط الحميد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 24‏]‏ بالنسبة إلى أحوال المشركين إذ لم يسبق لقوله ذلك مقابِل في الأحوال المذكورة في آية ‏{‏فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏ كما تقدم‏.‏ فموقع هذه الجملة الاستئناف البياني‏.‏ والمعنى‏:‏ كما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتّباعهم صراط الله كذلك كان سبَبُ استحقاق المشركين ذلك العذَاب كفرَهم وصدّهم عن سبيل الله‏.‏

وفيه مع هذه المناسبة لما قبله تخلّص بديع إلى ما بعده من بيان حقّ المسلمين في المسجد الحرام، وتهويل أمر الإلحاد فيه، والتنويهُ به وتنزيههُ عن أن يكون مأوى للشرك ورجس الظلم والعُدوان‏.‏

وتأكيد الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به‏.‏

وجاء ‏{‏يصدّون‏}‏ بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه دأبهم سواء فيه أهل مكة وغيرهم لأن البقية ظاهَرُوهم على ذلك الصد ووافقوهم‏.‏

أما صيغة الماضي في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ فلأنّ ذلك الفعل صار كاللقب لهم مثل قوله‏:‏ ‏{‏إن الله يدخل الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وسبيل الله‏:‏ الإسلام، فصدهم عنه هو الذي حقق لهم عذاب النار، كما حقق اهتداءُ المؤمنين إليه لهم نعيمَ الجنّة‏.‏

والصدّ عن المسجد الحرام مما شمله الصدّ عن سبيل الله فخصّ بالذكر للاهتمام به، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام، وذكر بنائه، وشرع الحجّ له من عهد إبراهيم‏.‏ والمراد بصدّهم عن المسجد الحرام صدّ عرفه المسلمون يومئذ‏.‏ ولعله صدّهم المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت‏.‏ والمعروف من ذلك أنهم مَنَعُوا المسلمين بعد الهجرة من زيارة البيت فقد قال أبو جهل لسَعْد بن معاذ لما جاء إلى مكّة معتمراً وقال لصاحبه أميّة بن خلف‏:‏ انتظر لي ساعة من النهار لعلّي أطوف بالبيت، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل وعَرَفَهُ‏.‏ فقال له أبو جهل‏:‏ أتطوف بالكعبة آمناً وقد أوتيتم الصْباة‏؟‏ ‏(‏يعني المسلمين‏)‏‏.‏ ومن ذلك مَا صنعوه يوم الحديبية‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ الآية نزلت في ذلك‏.‏ وأحسب أنّ الآية نزلت قبل ذلك سواء نزلت بمكة أم بالمدينة‏.‏

ووصف المسجد بقوله‏:‏ ‏{‏الذي جعلناه للناس‏}‏ الآية للإيماء إلى علّة مؤاخذة المشركين بصدّهم عنه لأجل أنهم خالفوا ما أراد الله منه فإنه جعله للناس كلهم يستوي في أحقية التعبّد به العاكفُ فيه، أي المستقرّ في المسجد، والبادي، أي البعيد عنه إذا دخله‏.‏

والمراد بالعاكف‏:‏ الملازم له في أحوال كثيرة، وهو كناية عن الساكن بمكة لأنّ الساكن بمكة يعكف كثيراً في المسجد الحرام، بدليل مقابلته بالبادِي، فأطلق العكوف في المسجد على سكنى مكة مجازاً بعلاقة اللزوم العرفي‏.‏ وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏سواءٌ‏}‏ بالرفع على أنه مبتدأ ‏{‏والعاكف فيه‏}‏ فاعل سدّ مسدّ الخبر، والجملة مفعول ثان ل ‏{‏جعلناه‏.‏

‏}‏ وقرأه حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني ل ‏{‏جعلناه‏.‏

والعكوف‏:‏ الملازمة‏.‏ والبادي‏:‏ ساكن البادية‏.‏

وقوله سواء‏}‏ لم يبيّن الاستواء فيما ذا لظهور أنّ الاستواء فيه بصفة كونه مسجداً إنما هي في العبادة المقصودة منه ومن ملحقاته وهي‏:‏ الطواف، والسّعي، ووقوف عرفة‏.‏

وكتب ‏{‏والباد‏}‏ في المصحف بدون ياء في آخره، وقرأ ابن كثير ‏{‏والبادِي‏}‏ بإثبات الياء على القياس لأنه معرف، والقياس إثبات ياء الاسم المنقوص إذا كان معرّفاً باللام، ومحمل كتابته في المصحف بدون ياء عند أهل هذه القراءة أنّ الياء عوملت معاملة الحركات وألِفات أواسط الأسماء فلم يكتبوها‏.‏ وقرأه نافع بغير ياء في الوقف وأثبتها في الوصل‏.‏ ومحمل كتابته على هذه القراءة بدون ياء أنه روعي فيه التخفيف في حالة الوقف لأن شأن الرسم أن يراعى فيه حالة الوقف‏.‏

وقرأه الباقون بدون ياء في الحالين الوصل والوقف‏.‏ والوجه فيه قصد التخفيف ومثله كثير‏.‏

وليس في هذه الآية حجة لحكم امتلاك دُور مكة إثباتاً ولا نفياً لأنّ سياقها خاص بالمسجد الحرام دون غيره‏.‏ ويلحق به ما هو من تمام مناسكه‏:‏ كالمسعَى، والموقف، والمشعر الحرام، والجمار‏.‏ وقد جرت عادة الفقهاء أن يذكروا مسألة امتلاك دور مكة عند ذكر هذه الآية على وجه الاستطراد‏.‏ ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه إلاّ ما منعته الشريعة كطواف الحائض بالكعبة‏.‏

وأما مسألة امتلاك دور مكة فللفقهاء فيها ثلاثة أقوال‏:‏ فكان عُمر بن الخطاب وابن عباس وغيرهما يقولون‏:‏ إن القادم إلى مكة للحج له أن ينزل حيث شاء من ديارها وعلى رب المنزل أن يؤويه‏.‏ وكانت دور مكة تُدعى السوائب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما‏.‏

وقال مالك والشافعي‏:‏ دور مكة مِلك لأهلها، ولهم الامتناع عن إسكان غيرهم، ولهم إكراؤها للناس، وإنما تجب المواساة عند الضرورة، وعلى ذلك حملوا ما كان يفعله عمر فهو من المواساة‏.‏ وقد اشترى عمر دار صفوان بن أمية وجعلها سجناً‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ دور مكة لا تُملك وليس لأهلها أن يكروها‏.‏ وقد ظُنّ أن الخلاف في ذلك مبني على الاختلاف في أنّ مكة فتحت عنوة أو صلحاً‏.‏ والحق أنه لا بناء على ذلك لأنّ من القائلين بأنها فتحت عنوة قائلين بتملك دور مكة فهذا مالك بن أنس يراها فتحت عنوة ويرى صحة تملك دورها‏.‏ ووجه ذلك‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ أهلها في منازلهم فيكون قد أقطعهم إياها كما مَنّ على أهلها بالإطلاق من الأسر ومن السبي‏.‏ ولم يزل أهل مكة يتبايعون دورهم ولا ينكر عليهم أحد من أهل العلم‏.‏

وخبر ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ محذوف تقديره‏:‏ نذقهم من عذاب أليم، دلّ عليه قوله في الجملة الآتية‏:‏ ‏{‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‏}‏‏.‏

وإذ كان الصد عن المسجد الحرام إلحاداً بظلم فإن جملة ‏{‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم‏}‏ تذييل للجملة السابقة لما في ‏(‏مَن‏)‏ الشرطية من العموم‏.‏

والإلحاد‏:‏ الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور‏.‏ والظلم يطلق على الإشراك وعلى المعاصي لأنها ظلم النفس‏.‏

والباء في ‏{‏بإلحاد‏}‏ زائدة للتوكيد مثلها في ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ أي من يُرد إلحاداً وبعداً عن الحق والاستقامة وذلك صدهم عن زيارته‏.‏

والباء في ‏{‏بظلم‏}‏ للملابسة‏.‏ فالظلم‏:‏ الإشراك، لأنّ المقصود تهديد المشركين الذين حملهم الإشراك على مناوأة المسلمين ومنعهم من زيارة المسجد الحرام‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من عذاب أليم‏}‏ مزيدة للتوكيد على رأي من لا يشترطون لزيادة ‏(‏مِن‏)‏ وقوعها بعد نفي أو نهي‏.‏ ولك أن تجعلها للتبعيض، أي نذقه عذاباً من عذاب أليم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏ عطف قصة على قصة‏.‏ ويعلم منها تعليل الجملة المعطوفة عليها بأن المُلحد في المسجد الحرام قد خالف بإلحاده فيه ما أراده الله من تطهيره حتى أمر ببنائه، والتخلص من ذلك إلى إثبات ظلم المشركين وكفرانهم نعمة الله في إقامة المسجد الحرام وتشريع الحجّ‏.‏

و ‏(‏إذ‏)‏ اسم زمان مجرد عن الظرفية فهو منصوب بفعل مقدّر على ما هو متعارف في أمثاله‏.‏ والتقدير‏:‏ واذكر إذْ بوّأنا، أي اذكر زمان بوّأنا لإبراهيم فيه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، أي اذكر ذلك الوقت العظيم، وعُرف معنى تعظيمه من إضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية دون المصدر فصار بما يدلّ عليه الفعل من التجدد كأنه زمن حاضر‏.‏

والتبوِئَة‏:‏ الإسكان‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 56‏]‏‏.‏

والمكان‏:‏ الساحة من الأرض وموضع للكون فيه، فهو فعل مشتق من الكون، فتبوئته المكان‏:‏ إذنُه بأن يتخذه مَباءة، أي مقراً يبني فيه بيتاً، فوقع بذكر ‏{‏مكان‏}‏ إيجاز في الكلام كأنه قيل‏:‏ وإذْ أعطيناه مكاناً ليتخذ فيه بيتاً، فقال‏:‏ مكان البيت، لأنّ هذا حكاية عن قصة معروفة لهم‏.‏ وسبق ذكرها فيما نزل قبل هذه الآية من القرآن‏.‏

واللام في ‏{‏لإبراهيم‏}‏ لام العلة لأنّ ‏{‏إبراهيم‏}‏ مفعول أول ل ‏{‏بوّأنا‏}‏ الذي هو من باب أعطى، فاللام مثلها في قولهم‏:‏ شكرت لك، أي شكرتك لأجلك‏.‏ وفي ذكر اللام في مثله ضرب من العناية والتكرمة‏.‏

و ‏{‏البيت‏}‏ معروف معهود عند نزول القرآن فلذلك عرف بلام العهد ولولا هذه النكتة لكان ذكر ‏{‏مكان‏}‏ حشواً‏.‏ والمقصود أن يكون مأوى للدين، أي معهداً لإقامة شعائر الدين‏.‏

فكان يتضمن بوجه الإجمال أنه يترقب تعليماً بالدين فلذلك أعقب بحرف ‏(‏أنْ‏)‏ التفسيرية التي تقع بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه‏.‏ وكان أصل الدين هو نفي الإشراك بالله فعلم أن البيت جعل مَعْلَماً للتوحيد بحيث يشترط على الداخل إليه أن لا يكون مشركاً، فكانت الكعبة لذلك أول بيت وضع للناس، لإعلان التوحيد كما بيناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين‏}‏ في ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 96‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وطهر بيتي‏}‏ مؤذن بكلام مقدّر دلّ عليه ‏{‏بوأنا لإبراهيم مكان البيت‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ وأمرناه ببناء البيت في ذلك المكان، وبعد أن بناه قلنا لا تُشرك بي شيئاً وطهّر بيتي‏.‏

وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة تشريف للبيت‏.‏ والتطهير‏:‏ تنزيهه عن كل خبيث معنىً كالشرك والفواحش وظلم الناس وبثّ الخصال الذميمة، وحسّاً من الأقذار ونحوها، أي أعدده طاهراً للطائفين والقائمين فيه‏.‏

والطواف‏:‏ المشي حول الكعبة، وهو عبادة قديمة من زمن إبراهيم قررها الإسلام وقد كان أهل الجاهلية يطوفون حول أصنامهم كما يطوفون بالكعبة‏.‏

والمراد بالقائمين‏:‏ الداعون تجاه الكعبة، ومنه سمي مقام إبراهيم، وهو مكان قيامه للدعاء فكان الملتزم موضعاً للدعاء‏.‏ قال زيد بن عَمرو بن نُفيل‏:‏

عُذتُ مما عاذ به إبراهيمُ *** مستقبلَ الكعبة وهو قائم

والركّع‏:‏ جمع راكع، ووزن فُعّل يكثر جمعاً لفاعل وصفاً إذا كان صحيح اللام نحو‏:‏ عُذّل وسُجّد‏.‏

والسجود‏:‏ جمع سَاجد مثل‏:‏ الرقود، والقعود، وهو من جموع أصحاب الأوصاف المشابهة مَصادر أفعالها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ‏(‏27‏)‏ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وأذّن‏}‏ عطف على ‏{‏وطهر بيتي‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وفيه إشارة إلى أن من إكرام الزائر تنظيف المنزل وأنّ ذلك يكون قبل نزول الزائر بالمكان‏.‏

والتأذين‏:‏ رفع الصوت بالإعلام بشيء‏.‏ وأصله مضاعف أذن إذا سمع ثم صار بمعنى بلغه الخبر فجاء منه آذن بمعنى أخبر‏.‏ وأذّن بما فيه من مضاعفة الحروف مشعر بتكرير الفعل، أي أكثر الإخبار بالشيء‏.‏ والكثرة تحصل بالتكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار‏.‏ ولكونه بمعنى الإخبار يُعدّى إلى المفعول الثاني بالباء‏.‏

والناس يعمّ كل البشر، أي كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك‏.‏

والمراد بالحجّ‏:‏ القصد إلى بيت الله‏.‏ وصار لفظ الحجّ علماً بالغلبة على الحضور بالمسجد الحرام لأداء المناسك‏.‏ ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس لأن للنفوس ميلاً إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس‏.‏ فهذه أصل في سنّة المؤثرات لأهل المقصد النافع‏.‏

وفي تعليق فعل ‏{‏يأتوك‏}‏ بضمير خطاب إبراهيم دلالة على أنه كان يحضر موسم الحجّ كل عام يبلّغ للناس التوحيد وقواعد الحنيفية‏.‏ روي أن إبراهيم لما أمره الله بذلك اعتلى جبل أبي قيس وجعل أصبعيه في أذنيه ونادى‏:‏ «إن الله كتب عليكم الحجّ فْحُجُّوا»‏.‏ وذلك أقصى استطاعته في امتثال الأمر بالتأذين‏.‏ وقد كان إبراهيم رحّالة فلعله كان ينادي في الناس في كل مكان يحل فيه‏.‏

وجملة ‏{‏يأتوك‏}‏ جواب للأمر، جعل التأذين سبباً للإتيان تحقيقاً لتيسير الله الحج على الناس‏.‏ فدل جواب الأمر على أنّ الله ضمن له استجابة ندائه‏.‏

وقوله ‏{‏رجالاً‏}‏ حال من ضمير الجمع في قوله ‏{‏يأتوك‏}‏‏.‏

وعطف عليه و‏{‏على كل ضامر‏}‏ بواو التقسيم التي بمعنى ‏(‏أو‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثيبات وأبكاراً‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏ إذ معنى العطف هنا على اعتبار التوزيع بين راجل وراكب، إذ الراكب لا يكون راجلاً ولا العكس‏.‏ والمقصود منه استيعاب أحوال الآتين تحقيقاً للوعد بتيسير الإتيان المشار إليه بجعل إتيانهم جواباً للأمر، أي يأتيك من لهم رواحل ومن يمشون على أرجلهم‏.‏

ولكون هذه الحال أغرب قدّم قوله ‏{‏رجالاً‏}‏ ثم ذكر بعده ‏{‏وعلى كل ضامر‏}‏ تكملة لتعميم الأحوال إذ إتيان الناس لا يعدو أحد هذين الوصفين‏.‏

و ‏{‏رجالاً‏}‏‏:‏ جمع راجل وهو ضد الراكب‏.‏

والضامر‏:‏ قليل لحم البطن‏.‏ يقال‏:‏ ضمر ضمُوراً فهو ضامر، وناقة ضامر أيضاً‏.‏ والضمور من محاسن الرواحل والخيللِ لأنه يعينها على السير والحركة‏.‏

فالضامر هنا بمنزلة الاسم كأنه قال‏:‏ وعلى كلّ راحلة‏.‏

وكلمة ‏(‏كُلّ‏)‏ من قوله ‏{‏وعلى كل ضامر‏}‏ مستعملة في الكثرة، أي وعلى رواحل كثيرة‏.‏ وكلمة ‏(‏كلّ‏)‏ أصلها الدلالة على استغراق جنس ما تضاف إليه ويكثر استعمالها في معنى كثير مما تضاف إليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوتيت من كل شيء‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 23‏]‏ أي من أكثر الأشياء التي يؤتاها أهل الملك، وقول النابغة‏:‏

بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي *** إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد

أي‏:‏ بها وحش كثير في رمال كثيرة‏.‏

وتكرر هذا الإطلاق ثلاث مرات في قول عنترة‏:‏

جادت عليه كلّ بِكْرٍ حُرة *** فتركْنَ كلّ قرارة كالدرهم

سَحاً وتسكاباً فكلّ عشيةٍ *** يجري عليها الماء لم يتصرم

وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 145‏]‏‏.‏ ويأتي إن شاء الله في سورة النمل‏.‏

و ‏{‏يأتين‏}‏ يجوز أن يكون صفة ل ‏{‏كل ضامر‏}‏ لأن لفظ ‏(‏كل‏)‏ صيره في معنى الجمع‏.‏ وإذ هو جمع لما لا يعقل فحقه التأنيث، وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل دون الناس فلم يقل‏:‏ يأتون، لأنّ الرواحل هي سبب إتيان الناس من بُعد لمن لا يستطيع السفر على رجليه‏.‏

ويجوز أن تُجعل جملة ‏{‏يأتين‏}‏ حالاً ثانية من ضمير الجمع في ‏{‏يأتوك‏}‏ لأنّ الحال الأولى تضمنت معنى التنويع والتصنيف، فصار المعنى‏:‏ يأتوك جماعات، فلما تأوّل ذلك بمعنى الجماعات جرى عليهم الفعل بضمير التأنيث‏.‏

وهذا الوجه أظهر لأنه يتضمن زيادة التعجيب من تيسير الحج حتى على المشاة‏.‏ وقد تشاهد في طريق الحج جماعات بين مكة والمدينة يمشون رجالاً بأولادهم وأزوادهم وكذلك يقطعون المسافات بين مكة وبلادهم‏.‏

والفجّ‏:‏ الشقّ بين جبلين تسير فيه الركاب، فغلب الفجّ على الطريق لأن أكثر الطرق المؤدية إلى مكة تُسلك بين الجبال‏.‏

والعميق‏:‏ البعيد إلى أسفل لأن العمق البعد في القعر، فأطلق على البعيد مطلقاً بطريقة المجاز المرسل، أو هو استعارة بتشبيه مكة بمكان مرتفع والناس مصعدون إليه‏.‏ وقد يطلق على السفر من موطن المسافر إلى مكان آخر إصعاد كما يطلق على الرجوع انحدار وهبوط، فإسناد الإتيان إلى الرواحل تشريف لها بأن جعلها مشاركة للحجيج في الإتيان إلى البيت‏.‏

وقوله ‏{‏ليشهدوا‏}‏ يتعلق بقوله ‏{‏يأتوك‏}‏ فهو علّة لإتيانهم الذي هو مسبب على التأذين بالحجّ فآل إلى كونه علّة في التأذين بالحجّ‏.‏

ومعنى ‏{‏لِيَشهدوا‏}‏ ليحضروا منافع لهم، أي ليحضروا فيحصّلوا منافع لهم إذ يحصّل كلّ واحد ما فيه نفعه‏.‏ وأهم المنافع ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه السلام من الثواب‏.‏ فكُني بشهود المنافع عن نيلها‏.‏ ولا يعرف ما وعدهم الله على ذلك بالتعيين‏.‏ وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه‏.‏

وتنكير ‏{‏منافع‏}‏ للتعظيم المراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية لأن في مجمع الحجّ فوائد جمّة للناس‏:‏ لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج، ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحاً في الدنيا بالتعارف والتعامل‏.‏

وخُص من المنافع أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏.‏ وذلك هو النحر والذبح للهدايا‏.‏ وهو مجمل في الواجبة والمتطوع بها‏.‏ وقد بيّنْته شريعة إبراهيم من قبل بما لم يبلغ إلينا، وبيّنه الإسلام بما فيه شفاء‏.‏

وحرف ‏{‏على‏}‏ متعلّق ب ‏{‏يذكروا،‏}‏ وهو للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الملابسة والمصاحبة، أي على الأنعام‏.‏ وهو على تقدير مضاف، أي عند نحر بهيمة الأنعام أو ذبحها‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ موصولة، و‏{‏من بهيمة الأنعام‏}‏ بيان لمدلول ‏(‏ما‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام‏.‏ وأدمج في هذا الحكم الامتنان بأنّ الله رزقهم تلك الأنعام، وهذا تعريض بطلب الشكر على هذا الرزق بالإخلاص لله في العبادة وإطعام المحاويج من عباد الله من لحومها، وفي ذلك سد لحاجة الفقراء بتزويدهم ما يكفيهم لعامهم، ولذلك فرع عليه ‏{‏فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير‏}‏‏.‏

فالأمر بالأكل منها يحتمل أن يكون أمر وجوب في شريعة إبراهيم عليه السلام فيكون الخطاب في قوله ‏{‏فكلوا‏}‏ لإبراهيم ومن معه‏.‏

وقد عدل عن الغيبة الواقعة في ضمائر ‏{‏ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏}‏، إلى الخطاب بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏فكلوا منها وأطعموا البائس‏}‏ الخ‏.‏ على طريقة الالتفات أو على تقدير قول محذوف مأمورٍ به إبراهيم عليه السلام‏.‏

وفي حكاية هذا تعريض بالرد على أهل الجاهلية إذ كانوا يمنعون الأكل من الهدايا‏.‏

ثم عاد الأسلوب إلى الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏ثم ليقضوا تفثهم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 29‏]‏‏.‏

ويحتمل أن تكون جملة ‏{‏فكلوا منها‏}‏ الخ معترضة مفرّعة على خطاب إبراهيم ومن معه تفريعَ الخبر على الخبر تحذيراً من أن يُمنع الأكل من بعضها‏.‏

والأيام المعلومات أجملت هنا لعدم تعلّق الغرض ببيانها إذ غرض الكلام ذكر حجّ البيت وقد بينت عند التعرض لأعمال الحج عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا الله في أيام معدودات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 203‏]‏‏.‏

والبائس‏:‏ الذي أصابه البؤس، وهو ضيق المال، وهو الفقير، هذا قول جمع من المفسرين‏.‏ وفي «الموطأ»‏:‏ في باب ما يكره من أكل الدواب، قال مالك‏:‏ سمعت أن البائس هو الفقير اه‏.‏ وقلت‏:‏ من أجل ذلك لم يعطف أحد الوصفين على الآخر لأنه كالبيان له وإنما ذكر البائس مع أنّ الفقير مغن عنه لترقيق أفئدة الناس على الفقير بتذكيرهم أنه في بؤس لأن وصف فقير لشيوع تداوله على الألسن صار كاللقب غيرَ مشعر بمعنى الحاجة وقد حصل من ذكر الوصفين التأكيد‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير‏:‏ الذي تكُون ثيابه نقيّة ووجهه وجه غني‏.‏

فعلى هذا التفسير يكون البائس هو المسكين ويكون ذكر الوصفين لقصد استيعاب أحوال المحتاجين والتنبيه إلى البحث عن موقع الامتناع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

هذا من جملة ما خاطب الله به إبراهيم عليه السلام‏.‏

وقرأ ورش عن نافع، وقنبلٌ عن ابن كثير، وابن عامر، وأبو عَمرو بكسر لام ‏{‏لِيَقْضوا‏}‏‏.‏ وقرأه الباقون بسكون اللام‏.‏ وهما لغتان في لام الأمر إذا وقعت بعد ‏(‏ثم‏)‏، كما تقدم آنفاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ليقطع‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏‏.‏

و ‏(‏ثم‏)‏ هنا عطفت جملة على جملة فهي للتراخي الرتبي لا الزمني فتفيد أنّ المعطوف بها أهم في الغرض المسوق إليه الكلام من المعطوف عليه‏.‏ وذلك في الوفاء بالنذر والطواف بالبيت العتيق ظاهرٌ إذ هما نسكان أهم من نحرِ الهدايا، وقضاء التّفث محول على أمر مهم كما سنبينه‏.‏

والتفث‏:‏ كلمة وقعت في القرآن وتردّد المفسرون في المراد منها‏.‏ واضطرب علماء اللغة في معناها لعلّهم لم يعثروا عليها في كلام العرب المحتج به‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إن أهل اللغة لا يعلمون التفث إلاّ من التفسير، أي من أقوال المفسرين‏.‏ فعَن ابن عُمر وابن عبّاس‏:‏ التفث‏:‏ مناسك الحجّ وأفعالُه كلها‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ لم صح عنهما لكان حجة الإحاطة باللغة‏.‏ قلت‏:‏ رواه الطبري عنهما بأسانيد مقبولة‏.‏ ونسبة الجصّاص إلى سعيد‏.‏ وقال نفطويه وقطرب‏:‏ التفث‏:‏ هو الوسخ والدرَن‏.‏ ورواه ابن وهب عن مالك بن أنس، واختاره أبو بكر بن العربي وأنشد قطرب لأمية بن أبي الصلت‏:‏

حفّوا رؤوسهم لم يَحلقوا تفثاً *** ولم يسلّموا لهم قَمْلاً وصِئْبانا

ويحتمل أن البيت مصنوع لأن أيمة اللّغة قالوا‏:‏ لم يَجئ في معنى التفث شعر يحتج به‏.‏ قال نفطويه‏:‏ سألت أعرابياً‏:‏ ما معنى قوله ‏{‏ثم ليقضوا تفثهم‏}‏، فقال‏:‏ ما أفسّرُ القرآن ولكن نقول للرجل ما أتفثك، أي ما أدرَنَك‏.‏

وعن أبي عبيدة‏:‏ التّفَث‏:‏ قصّ الأظفار والأخذُ من الشارب وكل ما يحرم على المُحرم، ومثله قوله عكرمة ومجاهد وربما زاد مجاهد مع ذلك‏:‏ رمي الجمار‏.‏

وعن صاحب «العين» والفراء والزجاج‏:‏ التفث الرمي، والذبح، والحلق، وقصّ الأظفار والشارب وشعر الإبط‏.‏ وهو قول الحسن ونسب إلى مالك بن أنس أيضاً‏.‏

وعندي‏:‏ أن فعل ‏{‏ليقضوا‏}‏ ينادي على أن التفث عمل من أعمال الحج وليس وسَخاً ولا ظفراً ولا شعراً‏.‏ ويؤيده ما روي عن ابن عمر وابن عباس آنفاً‏.‏ وأن موقع ‏(‏ثمّ‏)‏ في عطف جملة الأمر على ما قبلها ينادي على معنى التراخي الرتبي فيقتضي أنّ المعطوف ب ‏(‏ثمّ‏)‏ أهم مما ذكر قبلها فإن أعمال الحج هي المهم في الإتيان إلى مكة، فلا جرم أن التفث هو من مناسك الحجّ وهذا الذي درج عليه الحريري في قوله في المقامة المكية‏:‏ «فلمّا قضيت بعون الله التفث، واستبحت الطيبَ والرفث، صادف موسم الخَيف، معمعان الصيف»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وليوفوا نذورهم‏}‏ أي إن كانوا نذوراً أعمالاً زائدة على ما تقتضيه فريضة الحجّ مثل نذر طواف زائد أو اعتكاف في المسجد الحرام أو نسكاً أو إطعام فقير أو نحو ذلك‏.‏

والنذر‏:‏ التزام قُربة لله تعالى لم تكن واجبة على ملتزِمها بتعليققٍ على حصول مرغوب أو بدون تعليق، وبالنذر تصير القربة الملتزَمة واجبة على الناذر‏.‏ وأشهر صِيَغِه‏:‏ لله عليّ‏.‏‏.‏‏.‏ وفي هذه الآية دليل على أن النذر كان مشروعاً في شريعة إبراهيم، وقد نذر عُمر في الجاهلية اعتكاف ليلة بالمسجد الحرام ووفى به بعد إسلامه كما في الحديث‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ولِيُوفوا‏}‏ بضم التحتية وسكون الواو بعدها مضارع أوفى، وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏وليوَفُّوا‏}‏ بتشديد الفاء وهو بمعنى قراءة التخفيف لأن كلتا الصيغتين من فعل وفي المزيد فيه بالهمزة وبالتضعيف‏.‏

وختم خطاب إبراهيم بالأمر بالطواف بالبيت إيذاناً بأنّهم كانوا يجعلون آخر أعمال الحج الطواف بالبيت وهو المسمّى في الإسلام طواف الإفاضة‏.‏

والعتيق‏:‏ المحرر غير المملوك للناس‏.‏ شبه بالعبد العتيق في أنه لا ملك لأحد عليه‏.‏ وفيه تعريض بالمشركين إذ كانوا يمنعون منه من يشاءون حتى جعلوا بابه مرتفعاً بدون درج لئلا يدخله إلاّ من شاءوا كما جاء في حديث عائشة أيام الفتح‏.‏ وأخرج الترمذي بسند حسن أن رسول الله قال‏:‏ «إنما سمّى الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبّار قطّ»‏.‏ واعلم أنّ هذه الآيات حكاية عما كان في عهد إبراهيم عليه السلام فلا تؤخذ منها أحكام الحجّ والهدايا في الإسلام‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ثمّ لْيَقْضوا ولْيُوفُوا ولْيَطَوّفُوا‏}‏ بإسكان لام الأمر في جميعها‏.‏ وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر‏:‏ ‏{‏وليوفوا ولِيطوّفوا‏}‏ بكسر اللام فيهما‏.‏ وقرأ ابن هشام عن ابن عامر، وأبو عمرو، وورش عن نافع، وقنبلٌ عن ابن كثير، ورويس عن يعقوب‏:‏ ‏{‏ثمّ لِيقضوا‏}‏ بكسر اللاّم‏.‏ وتقدّم توجيه الوجهين آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ليقطع‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏ولْيُوفّوا‏}‏ بفتح الواو وتشديد الفاء من وفّى المضاعف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ‏(‏30‏)‏ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حرمات الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور * حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏

اسم الإشارة مستعمل هنا للفصل بين كلامين أو بين وجهين من كلام واحد، والقصد منه التنبيه على الاهتمام بما سيذكر بعده‏.‏ فالإشارة مرادٌ بها التنبيه، وذلك حيث يكون ما بعده غيرَ صالح لوقوعه خبراً عن اسم الإشارة فيتعين تقدير خبر عنه في معنى‏:‏ ذلك بيانٌ، أو ذكرٌ، وهو من أساليب الاقتضاب في الانتقال‏.‏ والمشهور في هذا الاستعمال لفظ ‏(‏هذا‏)‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا وإن للطاغين لشر مئاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 55‏]‏ وقولِ زهير‏:‏

هَذا وليس كمن يَعْيَا بخطبته *** وسْط النّدي إذا ما قائل نَطقا

وأوثر في الآية اسم إشارة البعيد للدلالة على بعد المنزلة كناية عن تعظيم مضمون ما قبله‏.‏

فاسم الإشارة مبتدأ حذف خبره لظهور تقديره، أي ذلك بيان ونحوه‏.‏ وهو كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض الأغراض فإذا أراد الخوض في غرض آخر، قال‏:‏ هذا وقد كان كذا وكذا‏.‏

وجملة ‏{‏ومن يعظم‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ معترضة عطفاً على جملة ‏{‏وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏ عطف الغرض على الغرض‏.‏ وهو انتقال إلى بيان ما يجب الحفاظ عليه من الحنيفية والتنبيه إلى أن الإسلام بُنِي على أساسها‏.‏

وضمير ‏{‏فهو‏}‏ عائد إلى التعظيم المأخوذ من فعل ‏{‏ومن يعظم حرمات الله‏}‏‏.‏ والكلام موجّه إلى المسلمين تنبيهاً لهم على أنّ تلك الحرمات لم يعطل الإسلام حرمتَها، فيكون الانتقال من غرض إلى غرض ومن مخاطب إلى مخاطب آخر‏.‏ فإن المسلمين كانوا يعتمرون ويحجون قبل إيجاب الحجّ عليهم، أي قبل فتح مكة‏.‏

والحُرمات‏:‏ جمع حُرُمة بضمتين‏:‏ وهي ما يجب احترامه‏.‏

والاحترام‏:‏ اعتبار الشيء ذَا حَرَم، كناية عن عدم الدخول فيه‏.‏ أي عدم انتهاكه بمخالفة أمر الله في شأنه، والحُرمات يشمل كل ما أوصَى الله بتعظيم أمره فتشمل مناسك الحج كلها‏.‏

وعن زيد بن أسلم‏:‏ الحرمات خمس‏:‏ المسجد الحرام، والبيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمُحرم ما دام محرماً، فقصَرَه على الذوات دون الأعمال‏.‏ والذي يظهر أن الحرمات يشمل الهدايا والقلائد والمشعر الحرام وغير ذلك من أعمال الحجّ، كالغسل في مواقعه، والحلق ومواقيته ومناسكه‏.‏

‏{‏وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏}‏

لما ذكر آنفاً بهيمة الأنعام وتعظيم حرمات الله أعقب ذلك بإبطال ما حرمه المشركون على أنفسهم من الأنعام مثل‏:‏ البَحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحَامي وبعضضِ ما في بطونها‏.‏ وقد ذكر في سورة الأنعام‏.‏

واستثني منه ما يتلى تحريمه في القرآن وهو ما جاء ذكره في ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 145‏]‏ في قوله‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً‏}‏ الآيات وما ذكر في سورة النحل وكلتاهما مكيتان سابقتان‏.‏

وجيء بالمضارع في قوله‏:‏ إلا ما يتلى عليكم‏}‏ ليشمل ما نزل من القرآن في ذلك مما سبق نزولَ سورة الحجّ بأنه تلي فيما مضى ولم يزل يتلى، ويشمل ما عسى أن يَنزل من بعد مثل قوله‏:‏ ‏{‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة‏}‏ الآية في‏}‏ ‏[‏سورة العقود‏:‏ 103‏]‏‏.‏

والأمر باجتناب الأوثان مستعمل في طلب الدوام كما في قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏‏.‏ وفرع على ذلك جملة معترضة للتصريح بالأمر باجتناب ما ليس من حرمات الله، وهو الأوثان‏.‏

واجتناب الكذب على الله بقولهم لبعض المحرمات ‏{‏هذا حلال‏}‏ مثل الدم وما أهلّ لغير الله به، وقولهم لبعض‏:‏ هذا حرام مثل البَحيرة، والسائبة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 116‏]‏‏.‏

والرّجس‏:‏ حقيقته الخبث والقذارة، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنه رجس‏}‏ في ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 145‏]‏‏.‏

ووصف الأوثان بالرجس أنها رجس معنوي لِكون اعتقاد إلهيتها في النفوس بمنزلة تعلّق الخبث بالأجساد فإطلاق الرجس عليها تشبيه بليغ‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله من الأوثان بيان لمجمل الرجس، فهي تدخل على بعض أسماء التمييز بياناً للمراد من الرجس هنا لا أن معنى ذلك أن الرجس هو عين الأوثان بل الرجس أعمّ أريد به هنا بعض أنواعه فهذا تحقيق معنى ‏(‏من‏)‏ البيانية‏.‏

و ‏{‏حنفاء لله‏}‏ حال من ضمير ‏{‏اجتنبوا‏}‏ أي تكونوا إن اجتنبتم ذلك حنفاء لله، جمع حنيف وهو المخلص لله في العبادة، أي تكونوا على ملّة إبراهيم حقاً، ولذلك زاد معنى ‏{‏حنفاء‏}‏ بياناً بقوله ‏{‏غير مشركين به‏}‏‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏‏.‏

والباء في قوله ‏{‏مشركين به‏}‏ للمصاحبة والمعية، أي غير مشركين معه غيره‏.‏

‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏

أعقب نهيهم عن الأوثان بتمثيل فظاعة حال من يشرك بالله في مصيره بالشرك إلى حال انحطاط وتلقف الضلالات إياه ويأسه من النجاة ما دام مشركاً تمثيلاً بديعاً إذ كان من قبيل التمثيل القابل لتفريق أجزائه إلى تشبيهات‏.‏

قال في «الكشاف»‏:‏ «يجوز أن يكون هذا التشبيه من المركب والمفرّق بأن صُور حال المشرك بصورة حال مَن خرّ من السماء فاختطفَتْه الطيرُ فتفرّق مِزعاً في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقاً فقد شبّه الإيمان في علوّه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة» أ‏.‏ ه‏.‏

يعني أنّ المشرك لما عدل عن الإيمان الفطري وكان في مكنته فكأنه كان في السماء فسقط منها، فتوزعته أنواع المهالك، ولا يخفى عليك أنّ في مطاوي هذا التمثيل تشبيهات كثيرة لا يعوزك استخراجها‏.‏

والسحيق‏:‏ البعيد فلا نجاة لمن حل فيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أو تهوي به الريح‏}‏ تخيير في نتيجة التشبيه، كقوله‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏‏.‏ أشارت الآية إلى أن الكافرين قسمان‏:‏ قسم شِركه ذبذبة وشكّ، فهذا مشبّه بمن اختطفته الطير فلا يستولي طائر على مزعة منه إلاّ انتهبها منه آخر، فكذلك المذبذب متى لاح له خيال اتبعه وترك ما كان عليه‏.‏ وقسم مصمّم على الكفر مستقر فيه، فهو مشبّه بمن ألقته الريح في واد سحيق، وهو إيماء إلى أن من المشركين من شركه لا يرجى منه خلاص كالذي تخطفته الطير، ومنهم من شركه قد يخلص منه بالتوبة إلا أن توبته أمر بعيد عسير الحصول‏.‏

والخُرور‏:‏ السقوط‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فخر عليهم السقف من فوقهم‏}‏ في ‏[‏سورة النحل‏:‏ 26‏]‏‏.‏

و ‏{‏تخطّفُه‏}‏ مضاعف خطف للمبالغة، الخطف والخطف‏:‏ أخذ شيء بسرعة سواء كان في الأرض أم كان في الجو ومنه تخطف الكرة‏.‏ والهُوِيّ‏:‏ نزول شيء من علو إلى الأرض‏.‏ والباء في ‏{‏تهوي به‏}‏ للتعدية مثلها في‏:‏ ذهب به‏.‏

وقرأ نافع، وأبو جعفر ‏{‏فتَخَطّفه‏}‏ بفتح الخاء وتشديد الطاء مفتوحة مضارع خطّف المضاعف‏.‏ وقرأه الجمهور بسكون الخاء وفتح الطاء مخففة مضارع خطف المجرّد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ تكرير لنظيره السابق‏.‏

الشعائر‏:‏ جمع شعيرة‏:‏ المَعْلم الواضح مشتقة من الشعور‏.‏ وشعائر الله‏:‏ لقب لمناسك الحجّ، جمع شعيرة بمعنى‏:‏ مُشعِرة بصيغة اسم الفاعل أي معلمة بما عينه الله‏.‏

فمضمون جملة ‏{‏ومن يعظم شعائر الله‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ أخص من مضمون جملة ‏{‏ومن يعظم حرمات الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ وذكر الأخص بعد الأعم للاهتمام‏.‏ أو بمعنى مشعر بها فتكون شعيرة فعيلة بمعنى مفعولة لأنها تجعل ليشعر بها الرائي‏.‏ وتقدم ذكرها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصفا والمروة من شعائر الله‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 158‏]‏‏.‏ فكل ما أمر الله به بزيارته أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله، أي مما أشعر الله الناس وقرره وشهره‏.‏ وهي معالم الحجّ‏:‏ الكعبة، والصفا والمروة، وعرفة، والمشعر الحرام، ونحوها من معالم الحجّ‏.‏

وتطلق الشعيرة أيضاً على بدنة الهدى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏والبدن جعلناها لكم من شعائر الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏ لأنهم يجعلون فيها شِعاراً، والشِعار العلامة بأن يطعنوا في جلد جانبها الأيمن طعناً حتى يسيل منه الدم فتكون علامة على أنها نُذرت للهدي، فهي فعلية بمعنى مفعولة مصوغة من أشعر على غير قياس‏.‏

فعلى التفسير الأول تكون جملة ‏{‏ومن يعظم شعائر الله‏}‏ إلى آخرها عطفاً على جملة ‏{‏ومن يعظم حرمات الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ الخ‏.‏ وشعائر الله أخصّ من حرمات الله فعطف هذه الجملة للعناية بالشعائر‏.‏

وعلى التفسير الثاني للشعائر تكون جملة ‏{‏ومن يعظم شعائر الله‏}‏ عطفاً على جملة ‏{‏ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏ تخصيصاً لها بالذكر بعد ذكر حرمات الله‏.‏

وضمير ‏{‏فإنها‏}‏ عائد إلى شعائر الله المعظمة فيكون المعنى‏:‏ فإن تعظيمها من تقوى القلوب‏.‏

وقوله ‏{‏فإنها من تقوى القلوب‏}‏ جواب الشرط والرابط بين الشرط وجوابه هو العموم في قوله‏:‏ ‏{‏القلوب‏}‏ فإن من جملة القلوب قلوب الذين يعظمون شعائر الله‏.‏ فالتقدير‏:‏ فقد حلّت التقوى قلبه بتعظيم الشعائر لأنها من تقوى القلوب، أي لأنّ تعظيمها من تقوى القلوب‏.‏

وإضافة ‏{‏تقوى‏}‏ إلى ‏{‏القلوب‏}‏ لأنّ تعظيم الشعائر اعتقاد قلبي ينشأ عنه العمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ‏(‏33‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏لكم فيها منافع‏}‏ حال من الأنعام في قوله‏:‏ ‏{‏وأحلت لكم الأنعام‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ وما بينهما اعتراضات أو حال من ‏{‏شعائر الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 32‏]‏ على التفسير الثاني للشعائر‏.‏ والمقصود بالخبر هنا‏:‏ هو صنف من الأنعام، وهو صنف الهدايا بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏ثم محلها إلى البيت العتيق‏}‏

وضمير الخطاب موجّه للمؤمنين‏.‏

والمنافع‏:‏ جمع منفعة، وهي اسم النفع، وهو حصول ما يلائم ويحفّ‏.‏ وجعل المنافع فيها يقتضي أنها انتفاع بخصائصها مما يراد من نوعها قبل أن تكون هدياً‏.‏

وفي هذا تشريع لإباحة الانتفاع بالهدايا انتفاعاً لا يتلفها، وهو رد على المشركين إذ كانوا إذا قلّدوا الهدْيَ وأشعَرُوه حظروا الانتفاع به من ركوبه وحمل عليه وشرب لبنه، وغير ذلك‏.‏

وفي «الموطّأ»‏:‏ ‏"‏ عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال‏:‏ اركبها‏؟‏ فقال‏:‏ إنها بدنة، فقال‏:‏ اركبها، فقال‏:‏ إنها بدنة، فقال‏:‏ اركبها، ويلك في الثانية أو الثالثة ‏"‏‏.‏ والأجل المسمّى هو وقت نحرها، وهو يوم من أيام مِنى‏.‏ وهي الأيام المعدودات‏.‏

والمَحِلّ‏:‏ بفتح الميم وكسر الحاء مصدر ميمي من حلّ يحِلّ إذا بلغ المكان واستقرّ فيه‏.‏ وهو كناية عن نهاية أمرها، كما يقال‏:‏ بلغ الغاية، ونهاية أمرها النحر أو الذبح‏.‏

و ‏{‏إلى‏}‏ حرف انتهاء مجازي لأنها لا تنحر في الكعبة، ولكن التقرب بها بواسطة تعظيم الكعبة لأنّ الهدايا إنما شرعت تكملة لشرع الحجّ، والحجّ قصد البيت‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، فالهدايا تابعة للكعبة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏هدياً بالغ الكعبة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ وإن كانت الكعبة لا ينحر فيها، وإنما المناحر‏:‏ مِنى، والمروة، وفجاج مكة أي طرقها بحسب أنواع الهدايا، وتبيينه في السنة‏.‏

وقد جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم محلها إلى البيت العتيق‏}‏ رد العجز على الصدر باعتبار مبدأ هذه الآيات وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ‏(‏34‏)‏ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الانعام فإلهكم إله واحد فَلَهُ أَسْلِمُواْ‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ثم محلها إلى البيت العتيق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 33‏]‏‏.‏

والأمة‏:‏ أهل الدين الذين اشتركوا في اتباعه‏.‏ والمراد‏:‏ أنّ المسلمين لهم منسك واحد وهو البيت العتيق كما تقدم‏.‏ والمقصود من هذا الرد على المشركين إذ جعلوا لأصنامهم مناسك تشابه مناسك الحج وجعلوا لها مواقيت ومذابح مثل الغَبْغَب مَنحر العُزّى، فذكرهم الله تعالى بأنه ما جعل لكل أمّة إلاّ منسكاً واحداً للقربان إلى الله تعالى الذي رزق الناس الأنعام التي يتقربون إليه منها فلا يحق أن يُجعل لغير الله منسك لأنّ ما لا يخلق الأنعام المقرّب بها ولا يرزقها الناسَ لا يسْتحق أن يُجعل له منسكٌ لِقربانها فلا تتعدد المناسك‏.‏

فالتنكير في قوله ‏{‏منسكاً‏}‏ للإفراد، أي واحداً لا متعدداً، ومحلّ الفائدة هو إسناد الجعل إلى ضمير الجلالة‏.‏

وقد دل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ليذكروا اسم الله‏}‏ وأدلّ عليه التفريع بقوله ‏{‏فإلهكم إله واحد‏}‏‏.‏ والكلام يفيد الاقتداء ببقيّة الأمم أهل الأديان الحق‏.‏

و ‏{‏على‏}‏ يجوز أن تكون للاستعلاء المجازي متعلقة ب ‏{‏يذكروا اسم الله‏}‏ مع تقدير مضاف بعدَ ‏{‏على‏}‏ تقديره‏:‏ إهداء ما رزقهم، أي عند إهداء ما رزقهم، يعني ونحرها أو ذبحها‏.‏

ويجوز أن تكون ‏{‏على‏}‏ بمعنى‏:‏ لام التعليل‏.‏ والمعنى‏:‏ ليذكروا اسم الله لأجل ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏.‏

وقد فرع على هذا الانفرادُ بالإلهية بقوله‏:‏ ‏{‏فإلهكم إله واحد فله أسلموا‏}‏ أي إذ كان قد جعل لكم منسكاً واحداً فقد نبهكم بذلك أنه إله واحد، ولو كانت آلهة كثيرة لكانت شرائعها مختلفة‏.‏ وهذا التفريع الأول تمهيد للتفريع الذي عقبه وهو المقصود، فوقع في النظم تغيير بتقديم وتأخير‏.‏ وأصل النظم‏:‏ فلله أسلموا، لأن إلهكم إله واحد‏.‏ وتقديم المجرور في ‏{‏فله أسلموا‏}‏ للحصر، أي أسلموا له لا لغيره‏.‏ والإسلام‏:‏ الانقياد التام، وهو الإخلاص في الطاعة، أي لا تخلصوا إلا لله، أي فاتركوا جميع المناسك التي أُقيمت لغيرِ الله فلا تنسكوا إلاّ في المنسك الذي جعله لكم، تعريضاً بالرد على المشركين‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏مَنسَكاً‏}‏ بفتح السين وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بكسر السين، وهو على القراءتين اسم مكان للنَّسْك، وهو الذبح‏.‏ إلا أنه على قراءة الجمهور جارٍ على القياس لأن قياسه الفتح في اسم المكان إذ هو من نسك ينسك بضمّ العين في المضارع‏.‏ وأما على قراءة الكسر فهو سماعي مثل مَسجد من سجد يسجد، قال أبو عليّ الفارسي‏:‏ ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب‏.‏

‏{‏وَبَشِّرِ المخبتين الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ والمقيمى الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏

اعتراض بين سوق المنن، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وأصحاب هذه الصفات هم المسلمون‏.‏

والمُخْبِت‏:‏ المتواضع الذي لا تكبُّر عنده‏.‏ وأصل المخبت مَن سلك الخَبْت‏.‏ وهو المكان المنخفض ضد المُصعد، ثم استعير للمتواضع كأنه سلك نفسه في الانخفاض، والمراد بهم هنا المؤمنون، لأنّ التواضع من شيمهم كما كان التكبّر من سمات المشركين قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏‏.‏

والوَجل‏:‏ الخوف الشديد‏.‏ وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال إنا منكم وجلون‏}‏ في ‏[‏سورة الحجر‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وقد أتبع صفة ‏{‏المخبتين‏}‏ بأربع صفات وهي‏:‏ وجل القلوب عند ذكر الله، والصّبر على الأذى في سبيله، وإقامة الصلاة، والإنفاق‏.‏ وكلّ هذه الصفات الأربع مظاهر للتواضع فليس المقصود مَن جمع تلك الصفات لأن بعض المؤمنين لا يجد ما ينفق منه وإنما المقصود مَن لم يُخِل بواحدة منها عند إمكانها‏.‏ والمراد من الإنفاق الإنفاق على المحتاجين الضعفاء من المؤمنين لأنّ ذلك هو دأب المخبتين‏.‏ وأما الإنفاق على الضيف والأصحاب فذلك مما يفعله المتكبرون من العرب كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏‏.‏ وهو نظير الإنفاق على الندماء في مجالس الشراب‏.‏ ونظير إتمام الإيسار في مواقع الميسر، كما قال النّابغة‏:‏

أني أتمم أيساري وأمنحهم *** مثنَى الأيادي وأكسوا الجفنة الأُدما

والمراد بالصبر‏:‏ الصبر على ما يصيبهم من الأذى في سبيل الإسلام‏.‏ وأما الصبر في الحروب وعلى فقد الأحبّة فمما تتشرك فيه النفوس الجلْدة من المتكبرين والمخبتين‏.‏ وفي كثير من ذلك الصبر فضيلة إسلامية إذا كان تخلقاً بأدب الإسلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155156‏]‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكاً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 34‏]‏ أي جعلنا منسكاً للقربان والهدايا، وجعلنا البدن التي تُهدى ويتقرب بها شعائرَ من شعائر الله‏.‏

والمعنى‏:‏ أنّ الله أمر بقربان البُدْن في الحجّ من عهد إبراهيم عليه السلام وجعلها جزاء عما يترخص فيه من أعمال الحجّ‏.‏ وأمر بالتطوع بها فوعد عليها بالثواب الجزيل فنالت بذلك الجَعل الإلهي يُمناً وبركة وحرمة ألحقتها بشعائر الله، وامتن بذلك على الناس بما اقتضته كلمة ‏{‏لكم‏}‏‏.‏

والبدن‏:‏ جمع بَدنَة بالتحريك، وهي البعير العظيم البَدن‏.‏ وهو اسم مأخوذ من البَدانة، وهي عِظم الجثّة والسمن، وفعله ككرم ونصر، وليست زنة بدنة وصفاً ولكنها اسم مأخوذ من مادة الوصف، وجمعه بُدْن‏.‏ وقياس هذا الجمع أن يكون مضموم الدال مثل خُشُب جمع خشبة، وثُمرُ جمع ثَمرة، فتسكين الدال تخفيف شائع، وغلب اسم البدنة على البعير المعيّن للهدي‏.‏

وفي «الموطأ»‏:‏ ‏"‏ عن أبي هُريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال‏:‏ اركَبْها، فقال‏:‏ إنها بدنة، فقال‏:‏ اركَبْها، فقال‏:‏ إنها بدنة، فقال‏:‏ اركبْها ويلك في الثانية أو الثالثة ‏"‏ فقول الرجل‏:‏ إنها بدنة، متعين لإرادة هديه للحجّ‏.‏

وتقديم ‏{‏البُدن‏}‏ على عامله للاهتمام بها تنويهاً بشأنها‏.‏

والاقتصار على البدن الخاصصِ بالإبل لأنها أفضل في الهَدي لكثرة لحمها، وقد ألحقت بها البقر والغنم بدليل السنّة، واسم ذلك هَدي‏.‏

ومعنى كونها من شعائر الله‏:‏ أنّ الله جعلها معالم تؤذن بالحج وجعل لها حرمة‏.‏ وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلّم بها بعير الهَدْي في جلده إشعاراً‏.‏

قال مالك في «الموطأ»‏:‏ «كان عبد الله بن عمر إذا أهدى هدْياً من المدينة قلّده وأشعره بذي الحليفة، يقلّده قبل أن يُشعره‏.‏‏.‏‏.‏ يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر‏.‏‏.‏‏.‏» بطعن في سنامه فالإشعار إعداد للنحر‏.‏

وقد عدها في جملة الحرمات في قوله‏:‏ ‏{‏لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي في سورة العقود ‏(‏2‏)‏‏.‏

وتقديم ‏{‏لكم‏}‏ على المبتدأ ليتأتى كون المبتدأ نكرة ليفيد تنوينه التعظيم، وتقديم ‏{‏فيها‏}‏ على متعلّقه وهو ‏{‏خير‏}‏ للاهتمام بما تجمعه وتحتوي عليه من الفوائد‏.‏

والخير‏:‏ النّفع، وهو ما يحصل للناس من النفع في الدنيا من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجِلالها ونعالها وقَلائدها‏.‏ وما يحصل للمُهدين وأهلهم من الشبع من لحمها يوم النّحر، وخير الآخرة من ثواب المُهدين، وثواب الشكر من المعطَيْن لحومَها لربّهم الذي أغناهم بها‏.‏

وفرع على ذلك أن أمَرَ الناس بأن يذكروا اسم الله عليها حين نحرها‏.‏

وصوافّ‏:‏ جمع صافّة‏.‏ يقال‏:‏ صف إذا كان مع غيره صفّا بأن اتّصل به‏.‏ ولعلّهم كانوا يصفُّونها في المنحر يوم النّحر بمِنى، لأنه كان بمِنى موضع أُعدّ للنحر وهو المنحَر‏.‏

وقد ورد في حديث مسلم عن جابر بن عبدالله في حجّة الوداع قال فيه‏:‏ «ثم انصرف رسول الله إلى المنحرَ فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بَدنة جعل يطعنها بحَربة في يده ثم أعطى الحربة عليّاً فنحر ما غَبَر، أي ما بقي وكانت مائة بدنة» وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة‏.‏

وانتصب ‏{‏صوافّ‏}‏ على الحال من الضمير المجرور في قوله ‏{‏عليها‏}‏‏.‏ وفائدة هذه الحال ذكر محاسن من مَشاهد البُدن فإن إيقاف الناس بدنهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها جلالاً‏.‏ وقريب منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏وجبت‏}‏ سقطت، أي إلى الأرض، وهو كناية عن زوال الروح التي بها الاستقلال‏.‏ والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعاً إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر مِن هديه، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة‏.‏

والأمر في قوله ‏{‏فكلوا منها‏}‏ مجمل، يحتمل الوجوب ويحتمل الإباحة ويحتمل الندب، وقرينة عدم الوجوب ظاهرة لأنّ المكلف لا يفرض عليه ما الداعي إلى فعله من طبعه‏.‏ وإنما أراد الله إبطال ما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المُهدي من لحوم هديه فبقي النظر في أنه مباح بحت أو هو مندوب‏.‏

واختلف الفقهاء في الأكل من لحوم الهدايا الواجبة‏.‏

فقال مالك‏:‏ يباح الأكل من لحوم الهدايا الواجبة، وهو عنده مستحبّ ولا يؤكل من فدية الأذى وجزاءِ الصيد ونذر المساكين، والحُجّة لمالك صريح الآية‏.‏ فإنها عامة إلا ما قام الدّليل على منعه وهي الثلاثة الأشياء المستثناة‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يأكل من هدي التمتّع والقِران، ولا يأكل من الواجب الذي عيّنه الحاج عند إحرامه‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ لا يأكل من لحوم الهدايا بحاللٍ مستنداً إلى القياس، وهو أن المُهدي أوجب إخراج الهدي من ماله فكيف يأكل منه‏.‏ كذا قال ابن العربي‏.‏ وإذا كان هذا قصارى كلام الشافعي فهو استدلال غير وجيه ولفظ القرآن ينافيه لا سيما وقد ثبت أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من لحوم الهدايا بأحاديث صحيحة‏.‏

وقال أحمد‏:‏ يؤكل من الهدايا الواجبة إلاّ جزاء الصيد والنذر‏.‏

وأما الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏وأطعموا القانع والمعتر‏}‏ فقال الشافعي‏:‏ للوجوب، وهو الأصح‏.‏ قال ابن العربي وهو صريح قول مالك‏.‏ وقلت‏:‏ المعروف من قول مالك أنه لو اقتصر المُهدي على نحر هديه ولم يتصدق منه ما كان آثماً‏.‏

والقانع‏:‏ المتصف بالقنوع، وهو التذلل‏.‏ يقال‏:‏ قنَع من باب سَأل‏.‏ قُنوعاً بضم القاف إذا سأل بتذلّل‏.‏

وأما القناعة ففعلها من باب تَعِب ويستوي الفعل المضارع مع اختلاف الموجب‏.‏ ومن أحسن ما جمع من النظائر ما أنشده الخفاجي‏:‏

العَبْد حرّ إن قَنِع *** والحر عبد إن قنَع

فاقنَع ولا تقنَع فما *** شيء يشين سوى الطمَع

وللزمخشري في «مقاماته»‏:‏ «يا أبا القاسم اقنَع من القَناعة لا من القنوع، تستغْن عن كل مِعْطَاءٍ ومنوع»‏.‏

وفي «الموطأ» في كتاب الصيد قال مالك‏:‏ «والقانع هو الفقير»‏.‏

والمعتَرّ‏:‏ اسم فاعل من اعترّ، إذا تعرّض للعطاء، أي دون سؤال بل بالتعريض وهو أن يحضر موضع العطاء، يقال‏:‏ اعترّ، إذا تعرّض‏.‏ وفي «الموطأ» في كتاب الصيد قال مالك‏:‏ «وسمعت أنّ المعترّ هو الزائر، أي فتكون من عرا إذا زار» والمراد زيارة التعرض للعطاء‏.‏

وهذا التفسير أحسن ويرجحه أنه عطف ‏{‏المعترّ‏}‏ على ‏{‏القانع،‏}‏ فدل العطف على المغايرة، ولو كانا في معنى واحد لما عطف عليه كما لم يعطف في قوله ‏{‏وأطعموا البائس الفقير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏وكذلك سخرناها لكم‏}‏ استئناف للامتنان بما خلق من المخلوقات لنفع الناس‏.‏ والأمارة الدالة على إرادته ذلك أنه سخّرها للناس مع ضعف الإنسان وقوّة تلك الأنعام فيأخذ الرجل الواحد العدد منها ويسوقها منقادة ويؤلمونها بالإشعار ثم بالطعن‏.‏ ولولا أنّ الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجزَ من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخّر له‏.‏

وقوله ‏{‏كذلك‏}‏ هو مثل نظائره، أي مثلَ ذلك التسخير العجيب الذي ترونه كان تسخيرها لكم‏.‏

ومعنى ‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏ خلقناها مسخرة لكم استجلاباً لأن تشكروا الله بإفراده بالعبادة‏.‏ وهذا تعريض بالمشركين إذا وضعوا الشكر موضع الشكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ‏}‏

جملة في موضع التعليل لجملة ‏{‏كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏، أي دلّ على أنّا سخرناها لكم لتشكروني أنه لا انتفاع لله بشيء من لحومها ولا دمائها حين تتمكنون من الانتفاع بها فلا يريد الله منكم على ذلك إلا أن تتّقُوه‏.‏

والنَيْل‏:‏ الإصابة‏.‏ يقال ناله، أي أصابه ووصل إليه‏.‏ ويقال أيضاً بمعنى أحرز، فإن فيه معنى الإصابة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏‏.‏

والمقصود من نفي أن يصل إلى الله لحومها ودماؤها إبطال ما يفعله المشركون من نضح الدماء في المذابح وحول الكعبة وكانوا يذبحون بالمَرْوَةِ‏.‏ قال الحسن‏:‏ كانوا يلطخون بدماء القرابين وكانوا يشرّحون لحوم الهدايا وينصبونها حول الكعبة قرباناً لله تعالى، يعني زيادة على ما يعطونه للمحاويج‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم‏}‏ إيماء إلى أن إراقة الدماء وتقطيع اللحوم ليسا مقصودين بالتعبد ولكنهما وسيلة لنفع الناس بالهدايا إذ لا يُنتفع بلحومها وجلودها وأجزائها إلا بالنّحر أو الذبح وإن المقصد من شرعها انتفاع الناس المُهدين وغيرهم‏.‏

فأما المهدون فانتفاعهم بالأكل منها في يوم عيدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم صيام يوم النّحر‏:‏ «يوم تأكلون فيه من نُسككم» فذلك نفع لأنفسهم ولأهاليهم ولو بالادخار منه إلى رجوعهم إلى آفاقهم‏.‏

وأما غيرهم فانتفاع من ليس له هدْيٌ من الحجيج بالأكل مما يهديه إليهم أقاربهم وأصحابهم، وانتفاع المحاويج من أهل الحرم بالشبع والتزود منها والانتفاع بجلودها وجِلالها وقلائدها‏.‏

كما أومأ إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏‏.‏

وقد عرض غير مرة سؤال عما إذا كانت الهدايا أوفر من حاجة أهل الموسم قطعاً أو ظناً قريباً من القطع كما شوهد ذلك في مواسم الحجّ، فما يبقى منها حيّاً يباع وينفق ثمنه في سدّ خلة المحاويج أجدَى من نحره أو ذَبحه حين لا يَرغب فيه أحد، ولو كانت اللحوم التي فاتَ أن قُطعّت وكانت فاضلة عن حاجة المحاويج يعمل تصبيرها بما يمنع عنها التعفُّن فيُنتفع بها في خلال العام أجدى للمحاويج‏.‏

وقد ترددتْ في الجواب عن ذلك أنظار المتصدّين للإفتاء من فقهاء هذا العصر، وكادوا أن تتفق كلمات من صدرت منهم فتاوى على أن تصبيرها مناف للتعبد بهَديها‏.‏

أما أنا فالذي أراه أن المصير إلى كلا الحالين من البيع والتصبير لما فضل عن حاجة الناس في أيام الحج، لينتفع بها المحتاجون في عامهم، أوفقُ بمقصد الشارع تجنباً لإضاعَة ما فَضِل منها رعياً لمقصد الشريعة من نفع المحتاج وحفظ الأموال مع عدم تعطيل النحر والذبح للقدر المحتاج إليه منها المشار إليه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏فاذكروا اسم الله عليها صواف‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم‏}‏، جمعاً بين المقاصد الشرعية‏.‏

وتعرض صورة أخرى وهي توزيع المقادير الكافية للانتفاع بها على أيام النحر الثلاثة بحيث لا يُتعجل بنحر جميع الهدايا في اليوم الأول طلباً لفضيلة المبادرة، فإن التقوى التي تصِل إلى الله من تلك الهدايا هي تسليمها للنفع بها‏.‏

وهذا قياس على أصل حفظ الأموال كما فرضوه في بيع الفَرس الحُبُس إذا أصابه ما يفضي به إلى الهلاك أو عدم النفع، وهي المعاوضة لِرَبْع الحبس إذا خرب‏.‏

وحكم الهدايا مركب من تعبّد وتعليل، ومعنى التعليل فيه أقوى، وعلّته انتفاع المسلمين، ومسلك العلّة الإيماء الذي في قوله تعال‏:‏ ‏{‏فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏‏.‏

واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء عقيدة وثنية قديمة فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام فلا يدَعون أحداً يأكله‏.‏ وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رماداً ويتوهمون أنّ رائحة الشواء تسرّ الآلهة المتقرب إليها بالقرابين، وكان المصريُّون يُلقون الطعام للتماسيح التي في النيل لأنها مقدّسة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يَنال، ويَناله‏}‏ بتحتية في أولهما‏.‏ وقرأه يعقوب بفوقية على مراعاة ما يجوز في ضمير جمع غير العاقل‏.‏ وربما كانوا يقذفون بمِزع من اللحم على أنها لله فربما أصابها محتاج وربما لم يتفطن لها فتأكلها السّباع أو تفسد‏.‏

ويشمل التقوى ذكر اسم الله عليها والتصدّق ببعضها على المحتاجين‏.‏

و ‏{‏يناله‏}‏ مشاكلة ل ‏{‏ينال‏}‏ الأول، استعير النيل لتعلّق العلم‏.‏ شبه علم الله تقواهم بوصول الشيء المبعوث إلى الله تشبيهاً وجهّه الحصول في كلّ وحسنته المشاكلة‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله ‏{‏مِنكم‏}‏ ابتدائية‏.‏ وهي ترشيح للاستعارة، ولذلك عبّر بلفظ ‏{‏التقوى منكم‏}‏ دون‏:‏ تقواكم أو التقوى‏.‏ مجرداً مع كون المعدول عنه أوجز لأنّ في هذا الإطناب زيادة معنى من البلاغة‏.‏

‏{‏كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المحسنين‏}‏‏.‏

تكرير لجملة‏:‏ ‏{‏كذلك سخرناها لكم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏، وليبنى عليه التنبيه إلى أن الثناء على الله مسخّرها هو رأس الشكر المنبه عليه في الآية السابقة، فصار مدلول الجملتين مترادفاً‏.‏ فوقع التأكيد‏.‏ فالقول في جملة ‏{‏كذلك سخرها لكم لتكبروا الله‏}‏ كالقول في أشباهها‏.‏

وقوله ‏{‏على ما هداكم‏}‏ ‏{‏على‏}‏ فيه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى التمكن، أي لتكبّروا الله عند تمكنكم من نحرها‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ موصولة، والعائد محذوف مع جارّه‏.‏ والتقديرُ‏:‏ على ما هداكم إليه من الأنعام‏.‏

والهداية إليها‏:‏ هي تشريع الهدايا في تلك المواقيت لينتفع بها الناس ويرتزق سكان الحرم الذين اصطفاهم الله ليكونوا دعاةَ التوحيد لا يفارقون ذلك المكان، والخطاب للمسلمين‏.‏

وتغيير الأسلوب تخريج على خلاف مقتضى الظاهر بالإظهار في مقام الإضمار للإشارة إلى أنهم قد اهتدوا وعملوا بالاهتداء فأحسنوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

استئناف بياني جواباً لسؤال يخطر في نفوس المؤمنين ينشأ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله‏}‏ الآية، فإنه توعّد المشركين على صدّهم عن سبيل الله والمسجد الحرام بالعذاب الأليم، وبشّر المؤمنين المخبِتين والمحسنين بما يتبادر منه ضد وعيد المشركين وذلك ثواب الآخرة‏.‏ وطال الكلام في ذلك بما تبعه لا جرم تشوفت نفوس المؤمنين إلى معرفة عاقبة أمرهم في الدنيا، وهل يُنتصر لهم من أعدائهم أو يدّخر لهم الخير كله إلى الدار الآخرة‏.‏ فكان المقام خليقاً بأن يُطَمئنَ الله نفوسهم بأنه كما أعد لهم نعيم الآخرة هو أيضاً مدافع عنهم في الدنيا وناصرهم، وحُذف مفعول ‏{‏يدافع‏}‏ لدلالة المقام‏.‏

فالكلام موجه إلى المؤمنين، ولذلك فافتتاحه بحرف التوكيد إما لمجرد تحقيق الخبر، وإما لتنزيل غير المتردد منزلة المتردّد لشدة انتظارهم النصر واستبطائهم إياه‏.‏

والتعبير بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وأن دفاع الله عنهم لأجل إيمانهم‏.‏

وقرأ الجمهور لفظ ‏{‏يدافع‏}‏ بألف بعد الدال فيفيد قوّة الدفع‏.‏ وقرأه أبو عمرو، وابن كثير، ويعقوب ‏{‏يدفع‏}‏ بدون ألف بعد الدال‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله لا يحب كل خوان كفور‏}‏ تعليل لتقييد الدفاع بكونه عن الذين آمنوا، بأن الله لا يحب الكافرين الخائنين، فلذلك يَدفع عن المؤمنين لردّ أذَى الكافرين‏:‏ ففي هذا إيذان بمفعول ‏{‏يدافع‏}‏ المحذوف، أي يدافع الكافرين الخائنين‏.‏

والخوّان‏:‏ الشديد الخَوْن، والخون كالخيانة، الغدْر بالأمانة، والمراد بالخوّان الكافر، لأن الكفر خيانة لعهد الله الذي أخذه على المخلوقات بأن يوحدوه فجعله في الفطرة وأبلغه الناسَ على ألسنة الرسل فنبه بذلك ما أودعهم في فطرتهم‏.‏

والكفُور‏:‏ الشديد الكفر‏:‏ وأفادت ‏(‏كلّ‏)‏ في سياق النفي عمومَ نفي مَحبة الله عن جميع الكافرين إذ لا يحتمل المقام غير ذلك‏.‏ ولا يتوهم من قوله ‏{‏لا يحب كل خوان‏}‏ أنه يحب بعض الخوانين لأن كلمة ‏(‏كلّ‏)‏ اسم جامد لا يشعر بصفة فلا يتوهم توجه النفي إلى معنى الكلية المستفاد من كلمة ‏{‏كل‏}‏ وليس هو مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏ الموهم أن نفي قوّة الظلم لا يقتضي نفي قليل الظلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

جملة وقعت بدل اشتمال من جملة‏:‏ ‏{‏إن الله يدافع‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 38‏]‏ لأن دفاع الله عن الناس يكون تارة بالإذن لهم بمقاتلة من أراد الله مدافعتهم عنهم فإنه إذا أذن لهم بمقاتلتهم كان متكفلاً لهم بالنصر‏.‏

وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم ‏{‏أُذِن‏}‏ بالبناء للنائب‏.‏ وقرأه الباقون بالبناء إلى الفاعل‏.‏

وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص، وأبو جعفر ‏{‏يقاتَلون‏}‏ بفتح التاء الفوقية مبنياً إلى المجهول‏.‏ وقرأه البقية بكسر التاء مبنياً للفاعل‏.‏

والذين يقاتلون مراد بهم المؤمنون على كلتا القراءتين لأنهم إذا قوتلوا فقد قاتَلوا‏.‏ والقتال مستعمل في المعنى المجازي إما بمادته، وإما بصيغة المضي‏.‏

فعلى قراءة فتح التاء فالمراد بالقتال فيه القتل المجازي، وهو الأذى‏.‏ وأما على قراءة ‏{‏يقاتِلون‏}‏ بكسر التاء فصيغة المضي مستعملة مجازاً في التهيُّؤِ والاستعداد، أي أذن للذين تَهَيّئوا للقتال وانتظروا إذن الله‏.‏

وذلك أنّ المشركين كانوا يُؤذون المؤمنين بمكة أذى شديداً فكان المسلمون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم‏:‏ اصبروا فإني لم أومَر بالقتال، فلما هاجر نزلت هذه الآية بعد بيعة العقبة إذناً لهم بالتهيُّؤ للدفاع عن أنفسهم ولم يكن قتال قبل ذلك كما يؤذن به قوله تعالى عقب هذا‏:‏ ‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏‏.‏

والباء في ‏{‏بأنهم ظلموا‏}‏ أراها متعلقة ب ‏{‏أذن‏}‏ لتضمينه معنى الإخبار، أي أخبرناهم بأنهم مظلومون‏.‏ وهذا الإخبار كناية عن الإذن للدفاع لأنك إذا قلت لأحد‏:‏ إنك مظلوم، فكأنك استعديته على ظالمه، وذكرته بوجوب الدفاع، وقرينة ذلك تعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏وإن الله على نصرهم لقدير‏}‏، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏بأنهم ظلموا‏}‏ نائب فاعل ‏{‏أذن‏}‏ على قراءة ضم الهمزة أو مفعولاً على قراءة فتح الهمزة‏.‏ وذهب المفسرون إلى أن الباء سببية وأن المأذون به محذوف دل عليه قوله ‏{‏يقاتلون،‏}‏ أي أُذن لهم في القتال‏.‏ وهذا يجري على كلتا القراءتين في قوله ‏{‏يقاتلون‏}‏ والتفسير الذي رأيتُه أنسبُ وأرشق‏.‏

وجملة ‏{‏وإن الله على نصرهم لقدير‏}‏ عطف على جملة ‏{‏أذن للذين يقاتلون‏}‏ أي أذن لهم بذلك وذُكروا بقدرة الله على أن ينصرهم‏.‏ وهذا وعد من الله بالنصر وارد على سنن كلام العظيم المقتدر بإيراد الوعد في صورة الإخبار بأن ذلك بمحل العلم منه ونحوه، كقولهم‏:‏ عسى أن يكون كذا، أو أن عندنا خيراً، أو نحو ذلك، بحيث لا يبقى للمترقب شك في الفوز بمطلوبه‏.‏

وتوكيد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيقه أو تعريض بتنزيلهم منزلة المتردد في ذلك لأنهم استبطأوا النصر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله‏}‏

بدل من ‏{‏الذين يقاتلون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏، وفي إجراء هذه الصلة عليهم إيماء إلى أن المراد بالمقاتلة الأذى، وأعظمه إخراجهم من ديارهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والفتنة أشد من القتل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏‏.‏

و ‏{‏بغير حق‏}‏ حال من ضمير ‏{‏أخرجوا،‏}‏ أي أخرجوا متلبسين بعدم الحق عليهم الموجِب إخراجهم، فإن للمرء حقاً في وطنه ومعاشرة قومه، وهذا الحق ثابت بالفطرة لأن من الفطرة أن الناشئ في أرض والمتولَّد بين قوم هو مساوٍ لجميع أهل ذلك الموطن في حق القرار في وطنهم وبين قومهم بالوجه الذي ثبت لجمهورهم في ذلك المكان من نشأة متقادمة أو قهر وغلبة لسكانه، كما قال عمر بن الخطاب‏:‏ «إنها لِبلاَدُهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام»‏.‏ ولا يزول ذلك الحق إلاّ بموجب قرره الشرّع أو العوائد قبل الشرع‏.‏ كما قال زُهير‏:‏

فإن الحق مقطعه ثلاث *** يمينٌ أو نِفار أو جَلاء

فمن ذلك في الشرائع التغريب والنّفي، ومن ذلك في قوانين أهل الجاهلية الجلاء والخَلع، وإنما يكون ذلك لاعتداء يعتديه المرء على قومه لا يجدون له مسلكاً من الردع غير ذلك‏.‏

ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله‏}‏ فإن إيمانهم بالله لا ينجر منه اعتداء على غيرهم إذ هو شيء قاصر على نفوسهم والإعلان به بالقول لا يضر بغيرهم‏.‏ فالاعتداء عليهم بالإخراج من ديارهم لأجل ذلك ظلم بَواح واستخدام للقوة في تنفيذ الظلم‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا أن يقولوا ربنا الله‏}‏ استثناء من عموم الحق، ولما كان المقصود من الحق حقاً يوجب الإخراج، أي الحقَّ عليهم، كان هذا الاستثناء مستعملاً على طريقة الاستعارة التهكمية، أي إن كان عليهم حق فهو أن يقولوا ربنا الله، فيستفاد من ذلك تأكيد عدم الحق عليهم بسبب استقراء ما قد يُتخيّل أنه حق عليهم‏.‏ وهذا من تأكيد الشيء بما يوهم نقضه‏.‏ ويسمى عند أهل البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، وشاهده قول النابغة‏:‏

ولا عَيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بِهِنّ فُلول من قِراع الكتائب

وهذه الآية لا محالة نزلت بالمدينة‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ‏}‏

اعتراض بين جملة ‏{‏أُذِن للذين يقاتلون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ الخ وبين قوله ‏{‏الذين إن مكناهم في الأرض‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 41‏]‏ الخ‏.‏ فلما تضمنت جملة ‏{‏أذن للذين يقاتلون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ الخ الإذن للمسلمين بدفاع المشركين عنهم أُتبع ذلك ببيان الحكمة في هذا الإذن بالدفاع، مع التنويه بهذا الدفاع، والمتولّين له بأنه دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين، وليس هو دفاعاً لنفع المسلمين خاصة‏.‏

والواو في قوله ‏{‏ولولا دفاع الله الناس‏}‏ إلى آخره، اعتراضية وتسمى واو الاستئناف ومفاد هذه الجملة تعليل مضمون جملة ‏{‏أذن للذين يقاتلون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ الخ‏.‏

و ‏{‏لولا‏}‏ حرف امتناع لوجود، أي حرف يدل على امتناع جوابه، أي انتفائه لأجل وجود شرطه، أي عند تحقق مضمون جملة شرطه فهو حرف يقتضي جملتين‏.‏ والمعنى‏:‏ لولا دفاع الناس عن مواضع عبادة المسلمين لصري المشركون ولتجاوزوا فيه المسلمين إلى الاعتداء على ما يجاور بلادهم من أهل الملل الأخرى المناوية لملّة الشرك ولهَدَموا مَعَابدهم من صوامع، وبِيَععٍ، وصلوات، ومساجد، يذكر فيها اسم الله كثيراً، قصداً منهم لمحو دعوة التوحيد ومحقاً للأديان المخالفة للشرك‏.‏ فذكر الصوامع، والبِيَع، إدماج لينتبهوا إلى تأييد المسلمين فالتّعريف في ‏{‏النّاس‏}‏ تعريف العهد، أي الناس الذين يتقاتلون وهم المسلمون ومشركو أهل مكة‏.‏

ويجوز أن يكون المراد‏:‏ لولا ما سبق قبل الإسلام من إذن الله لأمم التوحيد بقتال أهل الشرك ‏(‏كما قاتل داوود جالوت، وكما تغلّب سليمان على مَلِكَة سبأ‏)‏‏.‏ لمَحق المشركون معالم التوحيد ‏(‏كما محق بختنصر هيكل سليمان‏)‏ فتكون هذه الجملة تذييلاً لجملة ‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏، أي أذن للمسلمين بالقتال كما أذن لأمم قبلَهم لكيلا يطغى عليهم المشركون كما طغوا على من قبلهم حين لم يأذن الله لهم بالقتال، فالتعريف في ‏{‏الناس‏}‏ تعريف الجنس‏.‏

وإضافة الدفاع إلى الله إسناد مجازي عقلي لأنه أذن للناس أن يدفعوا عن معابدهم فكان إذن الله سبب الدفع‏.‏ وهذا يهيب بأهل الأديان إلى التألب على مقاومة أهل الشرك‏.‏

وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب ‏{‏دفاع‏.‏‏}‏ وقرأ الباقون ‏{‏دَفْع‏}‏ بفتح الدال وبدون ألف‏.‏ و‏{‏بعضهم‏}‏ بدل من ‏{‏الناسَ‏}‏ بدل بعض‏.‏ و‏{‏ببعض‏}‏ متعلق ب ‏{‏دفاع‏}‏ والباء للآلة‏.‏

والهدم‏:‏ تقويض البناء وتسقيطه‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو جعفر ‏{‏لهُدِمت‏}‏ بتخفيف الدال‏.‏ وقرأه الباقون بتشديد الدال للمبالغة في الهدم، أي لهدّمت هدْماً ناشئاً عن غيظ بحيث لا يبقون لها أثراً‏.‏

والصوامع‏:‏ جمع صومعة بوزن فَوْعلة، وهي بناء مستطيل مرتفع يصعُد إليه بدرج وبأعلاه بيت، كان الرهبان يتّخذونه للعبادة ليكونوا بعداء عن مشاغلة الناس إياهم، وكانوا يوقدون به مصابيح للإعانة على السهر للعبادة ولإضاءة الطريق للمارين‏.‏ من أجل ذلك سُمّيت الصومعة المنارة‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

تضيء الظلام بالعشيّ كأنها *** مَنارة مُمْسَى رَاهب مُتَبتّل

والبِيَع‏:‏ جمع بيعة بكسر الباء وسكون التحتية مكان عبادة النصارى ولا يعرف أصل اشتقاقها، ولعلها معرّبة عن لغة أخرى‏.‏

والصلوات‏:‏ جمع صلاة وهي هنا مراد بها كنائس اليهود معرّبة عن كلمة ‏(‏صلوثا‏)‏ ‏(‏بالمثلثة في آخره بعدها ألف‏)‏‏.‏ فلمّا عُربت جعلوا مكان المثلثة مثناة فوقية وجمعوها كذلك‏.‏ وعن مجاهد، والجحدري، وأبي العالية، وأبي رجاء أنهم قرأوها هنا ‏{‏وصلواث‏}‏ بمثلثة في آخره‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ قرأ عكرمة، ومجاهد ‏{‏صِلْويثا بكسر الصاد وسكون اللام وكسر الواو وقصر الألف بعد الثاء ‏(‏أي المثلثة كما قال القرطبي‏)‏ وهذه المادة قد فاتت أهل اللغة وهي غفلة عجيبة‏.‏

والمساجد‏:‏ اسم لمحل السجود من كل موضع عبادة ليس من الأنواع الثلاثة المذكورة قبله وقت نزول هذه الآية فتكون الآية نزلت في ابتداء هجرة المسلمين إلى المدينة حين بنَوا مسجدَ قباء ومسجد المدينة‏.‏

وجملة ‏{‏يذكر فيها اسم الله كثيراً‏}‏ صفة والغالب في الصفة الواردة بعد جمل متعاطفة فيها أن ترجع إلى ما في تلك الجمل من الموصوف بالصفة‏.‏ فلذلك قيل برجوع صفة ‏{‏يذكر فيها اسم الله‏}‏ إلى ‏{‏صوامع، وبيع، وصلوات، ومساجد‏}‏ للأربعة المذكورات قبلها وهي معاد ضمير ‏{‏فيها‏.‏

وفائدة هذا الوصف الإيماء إلى أن سبب هدمها أنها يذكر فيها اسم الله كثيراً، أي ولا تذكر أسماء أصنام أهل الشرك فإنهم لما أخرجوا المسلمين بلا سبب إلا أنهم يذكرون اسم الله فيقولون ربنا الله، لِمَحْو ذكرِ اسم الله من بلدهم لا جرم أنهم يهدمون المواضع المجعولة لذكر اسم الله كثيراً، أي دون ذكر الأصنام‏.‏ فالكثرة مستعملة في الدوام لاستغراق الأزمنة، وفي هذا إيماء إلى أن في هذه المواضع فائدة دينية وهي ذكر اسم الله‏.‏

قال ابن خويز منداد من أيمة المالكية ‏(‏من أهل أواخر القرن الرابع‏)‏ تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبِيَعهم وبيوت نارهم اه‏.‏

قلت‏:‏ أما بيوت النار فلا تتضمن هذه الآية منع هدمها فإنها لا يذكر فيها اسم الله وإنما مَنع هدمَها عقدُ الذمة الذي ينعقد بين أهلها وبين المسلمين، وقيل الصفة راجعة إلى مساجد خاصة‏.‏

وتقديم الصوامع في الذكر على ما بعده لأنّ صوامع الرهبان كانت أكثر في بلاد العرب من غيرها، وكانت أشهر عندهم، لأنهم كانوا يهتدون بأضوائها في أسفارهم ويأوون إليها، وتعقيبها بذكر البيع للمناسبة إذ هي معابد النصارى مثل الصوامع‏.‏ وأما ذكر الصلوات بعدهما فلأنه قد تهيأ المقام لذكرها، وتأخير المساجد لأنها أعم، وشأن العموم أن يعقب به الخصوص إكمالاً للفائدة‏.‏

وقوله ولينصرن الله من ينصره‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ولولا دفاع الله الناس‏}‏، أي أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم‏.‏ وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله، فكأنهم نصروا الله، ولذلك أكد الجملة بلام القسم ونون التوكيد‏.‏ وهذه الجملة تذييل لما فيها من العموم الشامل للمسلمين الذين أخرجهم المشركون‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله لقوي عزيز‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏ولينصرن الله من ينصره‏}‏، أي كان نصرهم مضموناً لأنّ ناصرهم قدير على ذلك بالقوة والعزة‏.‏ والقوة مستعملة في القدرة‏:‏ والعزّة هنا حقيقة لأنّ العزّة هي المنعة، أي عدم تسلّط غير صاحبها على صاحبها‏.‏

بدل من ‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق‏}‏ وما بينهما اعتراض‏.‏ فالمراد من ‏{‏الذين إن مكناهم في الأرض‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 41‏]‏ المهاجرون فهو ثناء على المهاجرين وشهادة لهم بكمال دينهم‏.‏ وعن عثمان‏:‏ «هذا والله ثناء قبلَ بَلاء»، أي قبل اختبار، أي فهو من الإخبار بالغيب الذي علمه الله من حالهم‏.‏ ومعنى ‏{‏إن مكناهم في الأرض‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 41‏]‏ أي بالنصر الذي وعدناهم في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله على نصرهم لقدير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏‏.‏